الإعجاز العلمي لقوله تعالى: "وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه"

تُعتبر الآية الكريمة "وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" (الحج: 73) واحدة من الآيات التي أثارت الكثير من النقاش حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. في هذه الآية، يسلط الله سبحانه وتعالى الضوء على قدرة الذباب وعجز الإنسان عن مقاومته أو استعادة ما يسلبه منه. وقد أدى هذا الموضوع إلى ظهور شُبَه تُشكك في هذا الجانب، حيث يدعي البعض أن الإشارة إلى الذباب ليس لها دلالة علمية خاصة. ولكن عند دراسة آلية حياة الذباب وخصائصه الفريدة، يمكننا أن ندرك عمق المعنى الذي تحمله هذه الآية.

يعتبر بعض المشككين أن الآية لا تتعلق بعجز الإنسان فقط، بل تعكس فهمًا ضيقًا لحياة الذباب وخصائصه. فهؤلاء يرون أن أي حشرة أخرى قد تُسلب شيئًا، وبالتالي، فإن تخصيص الذباب في هذه الآية ليس له دلالة علمية واضحة. هذا الفهم السطحي يتجاهل العديد من الجوانب الفريدة في حياة الذباب وقدراته الفائقة التي تجعل هذا المخلوق يمثل مثالاً قويًا على الإعجاز العلمي.

 القدرات الفريدة للذباب

تشير الأبحاث العلمية إلى أن الذباب يتمتع بقدرات فريدة تتيح له استغلال الفرص بكفاءة عالية. فعندما يحط الذباب على الطعام أو الشراب، يقوم بإفراز مواد لزجة من لعابه، بالإضافة إلى إنزيمات هاضمة، تفكك الطعام قبل امتصاصه. هذه العملية تضمن أن أي شيء يسلبه الذباب يتحول إلى مادة جديدة يصعب على الإنسان استعادتها. فبمجرد أن يتناول الذباب جزءًا من طعام الإنسان، يبدأ بتحليله إلى مكوناته الأساسية باستخدام إنزيماته، مما يجعل استعادة تلك المواد غير ممكنة. 

كما أن الذباب يحمل بعض الفيروسات والبكتيريا التي يمكن أن تسبب أمراضًا خطيرة، وهو ما يعزز الفكرة الواردة في الآية بأن الذباب يمثل تحديًا حقيقيًا للإنسان. إذن، فإن ما تسلبه الذبابة من طعام الإنسان يصبح غير قابل للاسترداد، مما يشير إلى عجز الإنسان عن استعادة ما فقده.

تظهر الدراسات أيضًا أن الذباب يمتلك نظام طيران معقد يسمح له بالمناورة بسرعة وفاعلية. إذ يتمكن الذباب من الطيران في اتجاهات متعددة، والهرب من أي محاولة للإمساك به، بفضل التصميم الفريد لجناحيه وأجسامه. من المثير للاهتمام أن الذباب يستطيع الطيران عموديًا، ويمكنه تغيير اتجاهه بسرعة هائلة، مما يجعله صعبًا في السيطرة عليه. هذه القدرة على المناورة تعكس تكييفه العالي مع بيئته.

القدرة على التحليق بسرعة تصل إلى عشرة كيلومترات في الساعة تجعله من أسرع الكائنات وأكثرها رشاقة في الطيران. وهو ما يعني أن محاولات الإنسان للإمساك بالذباب غالبًا ما تكون محكوم عليها بالفشل. فكلما حاول الإنسان الإمساك بالذباب، فإنه يتعرض لخسارة جديدة، حيث يُظهر الذباب قدراته الفائقة في الهروب.

 البنية التشريحية

تعتبر البنية التشريحية للذباب جزءًا من إعجازه. يتمتع الذباب بعيون مركبة تحتوي على آلاف العيّنات، مما يمنحه القدرة على رؤية محيطه بشكل شامل. كل عين مركبة تتكون من آلاف الوحدات البصرية الصغيرة، مما يسمح للذباب برؤية الأشياء من جميع الزوايا في نفس الوقت. هذا التصميم يمنحه ميزة هائلة في التعرف على المخاطر المحيطة به والاستجابة لها بسرعة.

كما أن النظام العصبي لديه يتيح له معالجة المعلومات بسرعة، مما يعزز من قدرته على التفاعل مع البيئة المحيطة به. بالإضافة إلى ذلك، فإن العضلات المسؤولة عن حركة الأجنحة تتيح له تحقيق التنسيق المثالي بين الحركة والتوازن، مما يعزز من فرصه في الهروب بعد سلب ما يحتاجه من الطعام.

الحقائق العلمية والقرآن

إن ما ذكره القرآن الكريم في هذه الآية يتطابق تمامًا مع الحقائق العلمية التي تم اكتشافها في العصر الحديث. فالعلماء الآن يدركون أن الذباب يحمل العديد من الأمراض ويؤثر على صحة الإنسان بطرق متعددة، مثل نقل الأمراض المعدية. فالذباب يعد أحد أهم الناقلين للأمراض، حيث يمكن أن ينقل البكتيريا والفيروسات من مكان إلى آخر. وبالتالي، فإن الحديث عن عجز الإنسان عن استعادة ما سلبه الذباب ليس مجرد تعبير أدبي، بل هو حقيقة علمية تستند إلى خصائص الذباب وفهمه.

إن تأمل هذه الآية الكريمة يكشف لنا عن حكمة إلهية عميقة. فالله سبحانه وتعالى، وهو الخالق، يذكر لنا الذباب ككائن ضعيف، ومع ذلك يظهر كيف أن البشر، رغم تفوقهم، يظلون عاجزين أمامه. إن الذباب يمثل رمزًا للضعف البشري في مواجهة قوى الطبيعة، وهو تذكير بأن الكائنات التي قد تبدو تافهة أو ضعيفة تحمل في طياتها أسرارًا وحقائق علمية قد تكون خافية علينا.

ويُعتبر الذباب مثالًا على كيف أن الكائنات الحية قد تكون أكثر تعقيدًا مما نتخيل. فالدراسات الحديثة حول حياة الذباب، مثل الذباب المنزلي أو الذباب الفاكهي، تكشف عن أنظمة معقدة من السلوكيات والعمليات البيولوجية التي تضمن بقائها واستمرارها. هذه الأنظمة تتضمن التكيف مع البيئة، البحث عن الطعام، التكاثر، والتفاعل الاجتماعي، مما يجعلها كائنات ذات أهمية كبيرة في النظام البيئي.

الخاتمة

في الختام، يمكن القول إن الآية الكريمة "وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه" ليست مجرد عبارة تعبر عن الضعف البشري أمام قوى الطبيعة، بل هي دلالة على الإعجاز العلمي الذي يتجلى في حياة الذباب وخصائصه الفريدة. إن من يتأمل هذه الآية بعمق سيكتشف كيف أن القرآن يحمل في طياته حقائق علمية لم يكن البشر يدركونها في الأزمنة القديمة. إن هذا يدعونا إلى التأمل في عظمة الخالق والإيمان بصدقية النصوص القرآنية وعلاقتها بالعلم.

يجب علينا كمسلمين وغير مسلمين أن نتأمل في معاني هذه الآيات وأن نبحث عن المعرفة في جميع أشكالها. إن العلم والدين لا يتعارضان، بل يمكن أن يكمل أحدهما الآخر. فالإعجاز العلمي في القرآن هو دعوة للتفكر والتأمل في خلق الله، وفي الوقت نفسه هو تذكير لنا بمدى عجزنا أمام عظمة هذا الخلق. فليكن هدفنا جميعًا السعي لفهم العالم من حولنا من خلال مزيج من الحكمة الإلهية والعلم الحديث، ونسعى لفهم أفضل لمكانتنا في هذا الكون.

المراجع :

  موسوعة عالم الحشرات: أسراره وعجائبه، د. حسن عبد الله الشرقاوي، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، ص122: 133

 من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص156: 158.

 مثل العاجز عن خلق الذباب، محمد عتوك، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة www.55a.net.

موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج6، ص67: 70 بتصرف.

الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص97.

تعليقات