تفسير قوله تعالى: "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: 125) من منظور علمي ومجازي


القرآن الكريم مليء بالآيات التي تحمل معاني غنية وعميقة تدل على قدرة الله وحكمته. إحدى هذه الآيات هي قوله تعالى في سورة الأنعام: "فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: 125). هذه الآية تضرب مثلاً بليغًا للحالة النفسية للكافر الذي يُصعب عليه تقبل الهداية ويفقد الراحة النفسية، ولكنها أيضًا تتضمن دلالة علمية معجزة تتعلق بضيق التنفس وصعوبة الحياة في طبقات الجو العليا، مما يضيف بُعدًا علميًا لهذه الصورة القرآنية.

التفسير المجازي للآية:

قبل الدخول في التفسير العلمي، ينبغي أن نبدأ بالتفسير المجازي التقليدي الذي تناوله المفسرون الكبار. يقول الله تعالى في هذه الآية إن من يريد أن يهديه الله يشرح صدره للإسلام، أي يوسع قلبه ويتسع لهدايته وتقبّل أوامر الله. في المقابل، من يريد الله أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، أي يشعر بضيق واختناق وكأنه لا يجد راحة ولا سكينة. وهذا التشبيه مألوف في التعبيرات الإنسانية، حيث يشعر الشخص المضطرب نفسيًا وكأن شيئًا ثقيلًا يقبع على صدره، يمنعه من التنفس بحرية أو الاستمتاع بالحياة. 

الحرج في اللغة

في اللغة العربية، كلمة "حرج" تأتي بمعنى الشدة والضيق، وهي كلمة تحمل في طياتها إحساسًا بصعوبة التحمل والمشقة. وقد وصف الله صدر الكافر بأنه حرج، أي في ضيق كبير يمنعه من الراحة. وكلمة "يصعد" أو "يصّعد" تُشير إلى صعوبة متزايدة، وكأن الشخص يحاول التسلق أو الصعود إلى مكان مرتفع، وهو أمر يتطلب جهدًا كبيرًا ويؤدي إلى ضيق التنفس والتعب.

التفسير العلمي للآية:

ما يميز القرآن الكريم هو أن بعض آياته تحمل معانٍ علمية لم يكن للبشرية علم بها في وقت نزولها. في هذا السياق، تأتي آية "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" لتصف بدقة حالة من يصعد في السماء من منظور علمي. فمع تطور العلم وتقدم الأبحاث في مجال الفيزياء والطب، تبيّن أن الإنسان عندما يرتفع في طبقات الجو العليا يقلّ الضغط الجوي وتنخفض نسبة الأوكسجين. وكلما صعد الإنسان إلى ارتفاعات أعلى، زادت صعوبة التنفس، وهو ما يؤدي إلى ما يُعرف بمتلازمة نقص الأوكسجين (Hypoxia)، التي تؤثر على الجسم وتجعل التنفس أمرًا شاقًا.

 نقص الأوكسجين في الطبقات العليا:

نقص الأوكسجين يحدث بسبب انخفاض الضغط الجوي مع الارتفاع في الغلاف الجوي. في مستويات الارتفاعات العالية، يقل الأوكسجين المتاح في الهواء مما يؤثر على رئة الإنسان وقدرته على التنفس بفعالية. يؤدي هذا إلى ضيق في الصدر، صعوبة في التنفس، ودوخة، وفي الحالات القصوى يمكن أن يتسبب ذلك في فقدان الوعي أو الوفاة. ومن هنا، يمكن القول إن التشبيه القرآني يصف بدقة علمية ما يشعر به الإنسان عند الصعود إلى السماء من صعوبة وضيق.

كيف يتم التكيف مع نقص الأوكسجين:

أظهرت الدراسات العلمية أن بعض الأشخاص الذين يعيشون في مناطق مرتفعة قد تطورت لديهم آليات طبيعية للتكيف مع نقص الأوكسجين. ومع ذلك، بالنسبة لشخص عادي يصعد إلى ارتفاعات عالية فجأة، قد يكون التأقلم صعبًا، وقد يواجه أعراضًا مختلفة مثل زيادة معدل التنفس وضيق الصدر، وهو ما يشبه حالة الكافر التي وردت في الآية.

التشبيه بين الضيق النفسي والضيق الجسدي:

يجدر الإشارة إلى أن هذا التشبيه القرآني الفريد يجمع بين الضيق النفسي والضيق الجسدي. فكما أن من يصعد في السماء يشعر بالضيق الجسدي نتيجة نقص الأوكسجين، كذلك الكافر يشعر بالضيق النفسي بسبب انغلاق قلبه أمام هدى الله. فالكافر يجد في اتباع الشريعة وضيق الحياة الدينية عبئًا كبيرًا، وكأن صدره محبوس في سجن ضيق. وهذا التناسب بين الضيق النفسي والجسدي يعزز من قوة الصورة التي يرسمها القرآن، حيث إن كلاهما يؤدي إلى مشاعر خانقة ومنهكة.

 الإعجاز العلمي في الآية:

بالنظر إلى التقدم العلمي الحديث، يمكن اعتبار هذه الآية من مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. فمن الواضح أن البشر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لديهم معرفة بتفاصيل نقص الأوكسجين على ارتفاعات عالية. لكن القرآن عبر بتشبيه بليغ عن هذه الظاهرة التي لم يتم اكتشافها علميًا إلا في العصور المتأخرة.

تعتبر هذه الآية دليلاً على أن القرآن لا يمكن أن يكون من صنع البشر، إذ يحتوي على إشارات علمية دقيقة لم يكن للإنسان علم بها في تلك الفترة. وهذه الإشارات تثبت أن القرآن هو وحي من عند الله، الذي يعلم أسرار الكون وما فيه.

شواهد أخرى من القرآن على الإعجاز العلمي:

هذه ليست الآية الوحيدة في القرآن التي تحمل إشارات علمية. ففي عدة مواضع من القرآن نجد إشارات دقيقة إلى الظواهر الطبيعية والكونية، مثل قوله تعالى: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات: 47)، التي تشير إلى توسع الكون، وهو ما أكده العلم الحديث بنظرية الانفجار العظيم.

كذلك قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" (الأنبياء: 30)، التي تؤكد أن الماء هو أساس الحياة، وهو ما اتفق عليه العلماء في عصرنا الحالي.

الخاتمة:

تعتبر آية "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" من الآيات التي تجمع بين التفسير المجازي والعلمي، حيث يصف الله ضيق صدر الكافر بطريقة مجازية تصور ضيقه النفسي وكأنه يصعد في السماء، وفي الوقت ذاته يتوافق هذا التشبيه مع حقيقة علمية حول نقص الأوكسجين وضيق التنفس على ارتفاعات عالية. هذا الجمع بين المعاني المجازية والحقائق العلمية يبرز إعجاز القرآن الكريم، ويؤكد على أنه كتاب الله المعجز الذي يحمل في طياته هدى للبشرية وآيات دالة على عظمة الخالق وعلمه الواسع.

المرجعرابط الصفحة من هنا


تعليقات