يتناول هذا المقال حكم إفطار الحائض إذا طهرت والمسافر إذا قدم إلى بلده في نهار رمضان. يستند الحكم إلى آراء فقهية متعددة وردت عن علماء الإسلام، مع الاستدلال بالأحاديث والآثار المتعلقة بالموضوع. سنعرض في هذا المقال الأسباب والأدلة التي تدعم كلا الرأيين ونوضح السياقات المختلفة التي يمكن أن تؤثر على الحكم الشرعي في هذه المسألة.
الرأي الأول: جواز الإفطار
موقف الإمام أحمد
الإمام أحمد بن حنبل يعتبر أن الحائض إذا طهرت أثناء النهار وكذلك المسافر إذا قدم إلى بلده في نهار رمضان، لا يلزمهم الإمساك بقية اليوم. ويستند في ذلك إلى عدة أدلة، من بينها ما روي عن الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "من أكل أول النهار فليأكل آخره"، وما روي عن التابعي جابر بن يزيد، وهو أبو الشعثاء، أنه قدم من سفر فوجد امرأته طاهراً من الحيض في ذلك اليوم فجامعها، ولم يتعقبهما في كتاب "المغني".
استدلال الإمام مالك والشافعي
يدعم هذا الرأي أيضاً الإمام مالك والشافعي. يستند هذا الموقف إلى أن الإمساك بقية اليوم لا فائدة منه، حيث إنه لا يصح الصيام في ذلك اليوم إلا إذا بدأ من الفجر. هؤلاء الأشخاص يباح لهم الفطر في أول النهار علناً وباطناً مع علمهم بأنه رمضان. ولأن الله أوجب الإمساك من الفجر، فهؤلاء في ذلك الوقت ليسوا من أهل الوجوب.
أدلة إضافية
الله سبحانه وتعالى أوجب على المسافر والحائض قضاء عدة من أيام أخرى بدلاً عن التي أفطروها. ولو أوجبنا عليهم الإمساك في يوم طهرت فيه الحائض أو قدم فيه المسافر، لأوجبنا عليهم أكثر مما أوجبه الله، حيث يتوجب عليهم الإمساك وقضاء ذلك اليوم. وهذا يعارض القاعدة الفقهية التي تنص على أن الواجب هو أحد الأمرين، إما الإمساك أو القضاء، وليس كلاهما معاً.
الرأي الثاني: وجوب الإمساك والقضاء
موقف الإمام أحمد الثاني وأبو حنيفة
الرأي الثاني في هذه المسألة ينص على وجوب الإمساك والقضاء للحائض التي تطهر أثناء النهار والمسافر الذي يقدم في نهار رمضان. هذا هو الرأي الثاني المنسوب للإمام أحمد، وهو أيضاً مذهب الإمام أبي حنيفة.
استدلال بالروايات
يستند هذا الموقف إلى قياس ذلك على ما إذا قامت البينة في أثناء النهار، حيث يجب الإمساك والقضاء على من كان من أهل الوجوب. إلا أن هذا القياس قد لا يكون دقيقاً في هذه الحالة، لأن من قامت عليه البينة في أثناء النهار لم يكن يباح له الفطر في أول النهار، على عكس الحائض والمسافر.
الاختلاف في القياس
القياس الذي استند إليه الرأي الثاني يعتبر أن من قامت عليه البينة في أثناء النهار لا يباح له الفطر في أول النهار لو علم بالهلال. وبالتالي، لم يكن ممن يباح له الفطر ظاهراً وباطناً. بينما الحائض والمسافر، فإن الفطر كان مباحاً لهم في بداية النهار، مما يجعل القياس غير مناسب.
استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية
شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الإمساك في حالة من قامت عليه البينة في أثناء النهار يفيده ويسقط عنه القضاء، حيث إنه معذور بعدم العلم بالهلال. إلا أن هذا لا ينطبق على الحائض والمسافر، حيث إنهما معذوران بالفطر في بداية النهار.
الخلاصة
بعد عرض الرأيين المختلفين والأدلة التي استند إليها كل منهما، يظهر أن الرأي الذي ينص على عدم وجوب الإمساك للحائض التي تطهر والمسافر الذي يقدم في نهار رمضان هو الأرجح. يستند هذا الرأي إلى أدلة قوية من السنة والآثار الفقهية، بالإضافة إلى المنطق الشرعي الذي لا يلزم المكلفين بأكثر مما أوجبه الله.
ينبغي على الحائض التي تطهر والمسافر الذي يقدم في نهار رمضان عدم إظهار الأكل والشرب علناً إذا كان في ذلك مفسدة أو يؤدي إلى تشويش المسلمين. وبهذا يحافظون على حرمة الشهر الكريم ويجنبون الفتنة.
تعتبر هذه المسألة من المسائل الفقهية التي اختلف فيها العلماء، ويجب على المسلمين احترام اختلاف الآراء والبحث عن الأحكام الشرعية التي تتوافق مع الدليل الصحيح والمنطق الشرعي. ونسأل الله الهداية والتوفيق للجميع في اتباع الحق.