《وَعَلَى اللهٍ فَتَوكَّلوا إن كُنتُم مُؤمِنِين》


التوكل على الله هو مبدأ جوهري في العقيدة الإسلامية، يشير إلى الثقة المطلقة والاعتماد على الله في كل جوانب الحياة، سواء كانت دينية أو دنيوية. يأمر الله المؤمنين بالتوكل عليه في عدة آيات من القرآن الكريم، مؤكدًا أن التوكل لا يعني الإهمال في اتخاذ الأسباب، بل الجمع بين الثقة بالله والعمل بالأسباب. في هذا المقال، سنتناول مفهوم التوكل على الله، وواجب المؤمن في التوكل، وأمثلة من القرآن والسنة على التوكل، وكيفية تحقيق هذا المبدأ في حياتنا اليومية.


أولًا: مفهوم التوكل على الله

التوكل على الله هو إسناد الأمر إليه والاعتماد الكامل على قدرته وتدبيره، مع الإيمان بأنه سبحانه هو مسبب الأسباب ومصرف الأمور. قال تعالى: "وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (المائدة: 23). هذه الآية تدعو المؤمنين إلى التوكل على الله، وتؤكد أن التوكل هو علامة من علامات الإيمان الصادق.

التوكل يعني أن يثق العبد بأن الله هو المدبر لكل شيء، وأنه سبحانه قد كتب كل ما سيحدث في الكون من خير وشر. ومع ذلك، ينبغي على المؤمن أن يأخذ بالأسباب التي وضعها الله في الكون لتحقيق الأهداف. فعلى سبيل المثال، يجب على المريض أن يتعالج بالأدوية مع الثقة بأن الشفاء بيد الله، وعلى المزارع أن يزرع البذور ويروي الأرض مع الإيمان بأن الله هو الذي ينبت الزرع.


ثانيًا: وجوب التوكل على الله

التوكل على الله واجب على كل مؤمن، وهو ليس مجرد حالة نفسية بل هو عمل قلبي يتبعه عمل حقيقي. يقول تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" (الأنفال: 2)، مما يدل على أن المؤمن الحقيقي هو الذي يخاف الله ويثق به ويعتمد عليه.

ويقول سبحانه أيضًا: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق: 3)، أي أن الله يكفيه ويعينه ويحل مشاكله. لذلك، على المؤمن أن يتوكل على الله في كل أمور حياته، مع الأخذ بالأسباب الشرعية التي تؤدي إلى النجاح والفلاح. فالتوكل لا يعني الجلوس وانتظار النتائج، بل يعني العمل والاجتهاد مع الثقة بأن النتائج بيد الله.


ثالثًا: أمثلة من التوكل في القرآن والسنة

التوكل على الله ليس مجرد نظرية، بل هو مبدأ تم تطبيقه من قبل الأنبياء والصالحين على مر العصور. من الأمثلة البارزة على التوكل:

1. النبي إبراهيم عليه السلام: حين أُلقي في النار من قبل النمرود، قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فنجاه الله من النار وجعلها بردًا وسلامًا عليه. قال تعالى: "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ" (الأنبياء: 69).

2. النبي محمد ﷺ: بعد غزوة أحد، عندما أُخبر بأن قريش قد جمعت قواها للهجوم مرة أخرى، قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فزادهم هذا القول إيمانًا وثقة بالله، وكفاهم الله شر أعدائهم. قال تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" (آل عمران: 173).

هذه الأمثلة تبين أن التوكل على الله كان دائمًا مصحوبًا بأخذ الأسباب اللازمة. فعندما قال النبي محمد ﷺ "حسبنا الله ونعم الوكيل"، كان يرتدي الدرع ويحمل السلاح ويأخذ بكل وسائل الحماية الممكنة.


 رابعًا: تحقيق التوكل في الحياة اليومية

لتحقيق التوكل على الله في حياتنا اليومية، يجب علينا اتباع نهج النبي ﷺ وأصحابه في الجمع بين الثقة بالله والعمل بالأسباب. فيما يلي بعض الخطوات لتحقيق ذلك:

1. الثقة بالله: يجب على المؤمن أن يثق بأن الله هو المدبر لكل شيء، وأنه سبحانه قد قدر كل ما يحدث في الكون. هذه الثقة تنبع من الإيمان بأن الله هو الحكيم العليم، وأن كل ما يحدث هو بقدر الله ولحكمة يعلمها هو.

2. الأخذ بالأسباب: ينبغي على المؤمن أن يعمل بجد ويأخذ بكل الأسباب الممكنة لتحقيق أهدافه. فالنجاح في الحياة يتطلب التخطيط والعمل والاجتهاد، مع الثقة بأن الله هو الذي يبارك في الجهود ويحقق النتائج.

3. الدعاء والالتجاء إلى الله: الدعاء هو من أهم وسائل التوكل على الله. يجب على المؤمن أن يدعو الله في كل أموره، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ويطلب منه التوفيق والتيسير.

4. الصبر والرضا: يجب على المؤمن أن يكون صبورًا عند مواجهة الصعوبات، وأن يرضى بقضاء الله وقدره. فالصبر هو علامة من علامات التوكل، والرضا هو نتيجة من نتائج التوكل.


الخاتمة

التوكل على الله هو من أعظم العبادات القلبية التي ينبغي على المؤمن أن يحرص عليها. هو الجمع بين الثقة بالله والعمل بالأسباب، وهو الذي يمنح المؤمن الطمأنينة والقوة لمواجهة تحديات الحياة. بالاتباع الأمثلة القرآنية والنبوية في التوكل، نستطيع أن نحقق هذا المبدأ في حياتنا اليومية، ونسير على نهج الأنبياء والصالحين في الاعتماد على الله والعمل الجاد لتحقيق أهدافنا.


المرجع : شرح كتاب التوحيد للشيخ العلامة عبد الله بن عبد العزيز بن باز

تعليقات