في الشريعة الإسلامية، نجد أن العديد من الأحكام والفرائض جاءت بتدرج حكيم يتناسب مع الأحوال النفسية والاجتماعية للناس، ومن بين هذه الأحكام، الصيام. لم يُفرض الصيام دفعة واحدة، بل مر بمراحل من التدرج كما حدث في تحريم الخمر. لنستعرض هذه المراحل بتفصيل أكبر لنبين الحكمة من هذا التدرج.
المرحلة الأولى: الصيام الاختياري
في بداية الإسلام، كان الصيام عبادة اختيارية للمسلمين. من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا. هذا التدرج الأولي في فرضية الصيام كان يتماشى مع طبيعة النفوس البشرية التي قد تجد في البداية صعوبة في الامتناع عن الأكل والشرب والجماع لفترة طويلة. قال الله تعالى في هذه المرحلة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184). كانت هذه الآية تتحدث عن أولئك الذين يستطيعون الصوم بصعوبة، حيث كان لهم الخيار بين الصوم أو إطعام مسكين.
المرحلة الثانية: فرض الصيام على كل مسلم
بعد أن اعتاد المسلمون على الصيام وأصبحوا أكثر استعدادًا لتحمل هذا التكليف، جاء الأمر الإلهي بفرضية صيام شهر رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر. يقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185). بهذا أصبح الصيام واجبًا على كل من شهد شهر رمضان، إلا من كان له عذر شرعي كالمريض أو المسافر، فقد رخص الله لهم بالفطر وقضاء الأيام التي أفطروها لاحقًا.
التدرج في وقت الإفطار والإمساك
لم يقتصر التدرج على فرض الصيام فقط، بل شمل أيضاً تفاصيل متعلقة بأوقات الإفطار والإمساك. في البداية، كان يُمنع على المسلمين الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء وحتى غروب الشمس في اليوم التالي. بمعنى آخر، إذا نام المسلم بعد الإفطار، لم يكن له أن يأكل أو يشرب أو يباشر زوجته حتى مغرب اليوم التالي. هذه القاعدة كانت تشكل صعوبة كبيرة على المسلمين، خاصة في الأيام الطويلة والحارة.
تخفيف التشديد في وقت الإفطار
كانت مشقة هذا الحكم على المسلمين ظاهرة، فجاء التخفيف الإلهي لتيسير هذه العبادة العظيمة. يقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187).
بهذه الآية، أصبح بإمكان المسلمين الأكل والشرب والجماع طوال الليل حتى طلوع الفجر، مما جعل الصيام أيسر وأخف على النفوس.
الحكمة من التدرج في فرض الصيام
التدرج في فرض الصيام كان له العديد من الحكم والدلالات:
1. التهيئة النفسية والتدريج في التكليف
الله سبحانه وتعالى يعلم ضعف النفس البشرية وصعوبة التغيير المفاجئ، لذلك جاء التدرج في فرض الصيام لتهيئة المسلمين نفسياً وجسدياً لقبول هذه العبادة العظيمة. هذا التدرج يساعد على تأقلم النفوس مع التغيير وتجنب الشعور بالمشقة الفجائية.
2. التدرج في التشريع كوسيلة للتربية
التدرج في فرض الصيام كان وسيلة تربوية لتعليم المسلمين الصبر والانضباط والتحكم في الشهوات. البداية بالاختيار بين الصوم والفدية، ثم الانتقال إلى الوجوب مع التخفيف في وقت الإفطار، كل ذلك يسهم في تعزيز الصبر والإرادة القوية.
3. مرونة التشريع الإسلامي
التدرج في فرض الصيام يعكس مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على التكيف مع الظروف المختلفة للناس. الله سبحانه وتعالى لم يفرض الصوم دفعة واحدة، بل راعى ظروف الناس وقدراتهم المختلفة، مما يظهر رحمة الله بعباده ورغبته في تيسير العبادة لهم.
مقارنة بين تدرج الصيام وتحريم الخمر
التدرج في فرض الصيام يشبه في جوانب عدة التدرج في تحريم الخمر. في البداية، لم يُحرّم الخمر بشكل قاطع، بل جاء التحريم على مراحل:
1. التنبيه على ضرره: قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ۖ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219). في هذه المرحلة، لم يُحرّم الخمر، بل أشار إلى ضرره.
2. المنع عند الصلاة: جاء الأمر بالابتعاد عن الخمر عند الاقتراب من الصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43). هنا، لم يُحرّم شرب الخمر مطلقاً، بل قُيّد بشروط معينة.
3. التحريم القاطع: في المرحلة الأخيرة، جاء التحريم القاطع للخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90).
التدرج كخاصية تشريعية في الإسلام
التدرج في التشريع هو خاصية مميزة في الشريعة الإسلامية، تظهر في عدة جوانب، منها:
1. التدرج في فرض العبادات: مثل الصيام والصلاة والزكاة. لم تُفرض كل هذه العبادات دفعة واحدة، بل جاءت على مراحل لتيسر قبولها والالتزام بها.
2. التدرج في تحريم المحرمات: كما في الخمر والربا. بدأ التحريم بالتنبيه على الضرر، ثم القيود، ثم التحريم النهائي.
3. التدرج في التغيير الاجتماعي: مثل إلغاء العبودية وتحقيق العدالة الاجتماعية. الإسلام لم يُلغِ العبودية دفعة واحدة، بل وضع من التشريعات ما يؤدي إلى إنهائها تدريجياً.
تطبيقات التدرج في العصر الحديث
التدرج كمنهج تشريعي يمكن تطبيقه في العصر الحديث لتحقيق التغيير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بفعالية. يمكن للحكومات والمجتمعات الاستفادة من هذا النهج في:
1. التعليم والتوعية: البدء بتوعية الناس حول مخاطر معينة أو فوائد سلوك معين، ثم تقديم التشريعات تدريجياً.
2. الإصلاحات الاجتماعية: تنفيذ الإصلاحات على مراحل لتجنب الصدمات الاجتماعية والتقليل من المقاومة.
3. التغيير الاقتصادي: تنفيذ السياسات الاقتصادية الجديدة بشكل تدريجي لضمان التأقلم وتقليل الأضرار الجانبية.
خاتمة
التدرج في فرضية الصيام يعكس حكمة الله سبحانه وتعالى في التشريع، وحرصه على تيسير العبادة على المسلمين. هذا التدرج لم يكن عشوائيًا، بل جاء مراعيًا لحال الناس وظروفهم، مما ساهم في قبولهم للصيام كعبادة وفريضة. يتجلى في هذا التدرج رحمة الله وحكمته، ويعطينا درسًا مهمًا في كيفية تحقيق التغيير والتطوير في حياتنا بأسلوب متدرج ومتأنٍ، يراعي قدرات الناس وظروفهم المختلفة.
المرجع: كتاب فتاوي في الزاكاة والصيام للشيخ محمد بن صالح العثيمن