إن عدم أداء النبي محمد صلى الله عليه وسلم لفريضة الحج في السنة التاسعة للهجرة يعود لعدة أسباب هامة، ترتبط بطبيعة الظروف المحيطة وأهمية ترتيباته للدعوة الإسلامية في ذلك الوقت. نوضح فيما يلي الأسباب الرئيسية التي دفعته لتأجيل أداء فريضة الحج إلى السنة العاشرة:
الأول: كثرة الوفود في السنة التاسعة
السنة التاسعة من الهجرة تُعرف بعام الوفود، حيث توافدت القبائل العربية إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها وتتلقى تعاليم الدين الإسلامي من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. استقبال النبي لهذه الوفود وتوجيههم وتعليمهم كان من الأمور ذات الأهمية القصوى في تلك الفترة، إذ أن نشر الإسلام وتعليم الناس أمور دينهم يعتبر واجباً عظيماً على النبي صلى الله عليه وسلم. كانت هذه الوفود تأتي لتستفسر عن أحكام الدين الجديد وتتعلم الفرائض، وكان وجود النبي بينهم ضروريًا لتوضيح تعاليم الإسلام بشكل مباشر وشامل. لذا، كان من الأفضل أن يبقى النبي في المدينة لتأدية هذا الدور المهم بدلاً من السفر للحج.
الثاني: احتمالية حج المشركين في السنة التاسعة
في السنة التاسعة، كان لا يزال هناك تواجد للمشركين في مكة، وكانوا يحجون ويطوفون بالبيت الحرام. كانت العادة عندهم أن يطوفوا عراة حول الكعبة إلا من استطاع أن يستعير ثوباً من قريش. طواف المشركين بهذه الصورة كان مرفوضاً في الشريعة الإسلامية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدف إلى تطهير مناسك الحج من هذه الممارسات الوثنية. لذلك، فضل النبي تأجيل الحج إلى السنة العاشرة لتكون المناسك خالصة للمسلمين فقط، بعد أن أصدر في السنة التاسعة قرارًا بعدم السماح للمشركين بالحج أو الطواف عراة حول الكعبة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" (أخرجه البخاري).
الثالث: تنظيم الحج الإسلامي
تأجيل الحج إلى السنة العاشرة أتاح الفرصة للنبي صلى الله عليه وسلم لتنظيم مناسك الحج بشكل يتناسب مع تعاليم الإسلام. كان هدفه أن يتم الحج بطريقة صحيحة دون اختلاط بالشرك أو العادات الجاهلية. وقد أمر النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يعلن هذه التغييرات في موسم الحج التاسع، مما أعطى فرصة للمسلمين لتخطيط حجهم بشكل يتوافق مع الأحكام الإسلامية الجديدة.
الرابع: الحكمة الإلهية في تأجيل الحج
الحكمة الإلهية تتجلى في كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم. كان التأجيل ليحقق مصلحة أكبر في توجيه الأمة الإسلامية وتثبيت دعائم الدين. التأجيل ساعد في تهيئة الظروف المناسبة لأداء مناسك الحج بشكل يتماشى مع الإسلام تماماً، دون أي مظاهر للشرك أو العادات الجاهلية.
الإجراءات المتخذة في السنة التاسعة
في السنة التاسعة، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقود الحجاج، ثم أتبعه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ليعلن براءة من المشركين وأحكام الحج الجديدة، مما كان بمثابة إعلان صريح لتغيير نظام الحج بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية. جاء في صحيح البخاري: "ثم بعث أبا بكر رضي الله عنه أميرًا على الحج، ليقيم للناس مناسكهم، فخرج أبو بكر رضي الله عنه، حتى إذا كان بالعرج، قام النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إني قد أُمرتُ أن أُعلِنَ بألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان."
الحج في السنة العاشرة
في السنة العاشرة، أدى النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الحج، وهو الحج الوحيد له المعروف بحجة الوداع. في هذا الحج، ألقى النبي خطبته الشهيرة التي وضع فيها أسساً عظيمة للأمة الإسلامية، وبيّن فيها حقوق المسلمين وواجباتهم، وختم فيها الرسالة. لقد كانت هذه الخطبة بمثابة دستور للأمة الإسلامية، تتضمن مبادئ العدل والمساواة، واحترام حقوق الإنسان، ومنع الربا، وتعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية.
خاتمة
إن عدم أداء النبي صلى الله عليه وسلم للحج في السنة التاسعة يعود لأسباب استراتيجية ودعوية مهمة، تتعلق بانتشار الإسلام، وتعليم المسلمين، وتنظيم مناسك الحج وفق الشريعة الإسلامية، وتطهير الحج من مظاهر الشرك والعادات الجاهلية. هذه الخطوات كانت ضرورية لضمان أن يؤدي المسلمون فريضة الحج بطريقة تتوافق مع تعاليم الإسلام، وتحقق أهدافه الروحية والاجتماعية. تأجيل الحج إلى السنة العاشرة كان قراراً حكيماً مكن النبي من تأدية مناسك الحج في ظروف مثلى، مما رسخ في أذهان المسلمين كيفية أداء هذه الشعيرة العظيمة وفقاً لتعاليم الدين الحنيف.
المرجع: فقه الحج والعمرة؛ أحكامها وفتاويها للدكتور أحمد مصطفى متولي